ناجي جواد مصلح الساعات الشهير في العراق




ناجي جواد الساعاتي مصلح الساعات الذي اصبح لاحقا رحالة مشهورا  جاب العالم وكتب  في ادب الرحلات  حتى صار علم من اعلامه ورائدا من رواده في الادب  العراقي ،وفي النهاية غلبت صفة الادب عليه على صفة تاجر الساعات ، كما  غلبت عليه صفة الداعم لابرز مشاريع الثقافية والتعليم الخيرية  كالمساهمة  في تعمير مكتبة الخلاني الشهيرة، ودعم ادارات المدارس الجعفرية الاهلية.وقبل ذلك  فالساعاتي هو تاجر بنكهة انسانية قريب من الفقراء لانه نشأ بينهم وشق طريقه للنجاح بعصامية صارمة ...سيرته عراقية  بامتياز شهدت وساهمت في ارساء زمن عراقي كانت تضبط يومياته اشهر  الساعات السويسرية (اولما) التي استوردها  ناجي جواد الساعاتي ابان  بدايات الاربعينيات من عمر الدولة العراقية.


صبابيغ الآل
 لم ينس ناجي جواد الساعاتي ابدا تلك المحلة التي ابصر النور فيها محلة صبابييغ الآل العريقة 1922،حيث عاش طفولته في هذا الحي البغدادي الذي سكنه علية البغداديون وابرز الشخصيات التي اسهمت في بناء النهضة التنويرية للعراق الحديث،



كعائلة جعفر ابو التمن وعائلة محمد مهدي كبه  ود ابراهيم كبة والوزير صادق البصام والمحامي الشهير عبود الشالجي والمؤرخ عبدالرزاق الحسني والوزير عبدالحسن زلزلة والمعماري محمد مكية  وعشرات الرموز والشخصيات التي احصاها المؤرخ رفعت مرهون الصفار في كتابه عن المحلة....في هذا الحي تلقى ناجي جواد الساعاتي تعليمه الابتدائي في المدرسة الهاشمية  ثم الثانوية الجعفرية المسائية وتدرج حتى نال ليسانس الحقوق من الدراسات المسائية  ايضا في جامعة بغداد  1954م... ظل طوال تواجده في بغداد يستوقف من معه عندما يصادف مروره مما تبقى من اطلال محلته العريقة، فيستاذنهم دقائق للوقوف على ما تبقى من محلته  كيما يستنشق عبير الذكريات التي رحلت من محلة صبابييغ الآل البغدادية  وترسبت في اعماق روحه وذاكرته ولم تغادرهما ابدا.



لقب الساعاتي



كان  ابوه جواد الساعاتي هو البطل الاول  في قصة العائلة مع الساعات حيث كان يعمل في دكان متواضع  بسوق الساعجية  بدايات القرن الماضي بجوار المستنصرية القديمة...في يوم من ايام  الحرب العالمية الاولى دخل ضابط اجنبي الى محله طالبا منه تصليح ساعته،فقام بتصليحها...ومن تلك اللحظة اصبح الحاج جواد  اول مصلحا من المسلمين للساعات في العراق وعلّم المهنة  بعد ذلك الى اخوته محمد حسين و عبد اللطيف، ثم انتقلت المهنه الى ألأبناء بل و حتى بعض ألأحفاد. ومن ذلك الحين اختفى لقبهم  العشائري الذي يعود لقبيلة بني اسد العربية الاصيلة   من فخذ المراياتي ليحل محله لقب الساعاتي الذي اشتهر به  ناجي جواد تاجرا واديبا  وعلما من اعلام ادب الرحلات في العراق  (كان ابي جواد يعمل في سوق الكمارك حيث يقع فيه دكانه المتواضع ليجلس وراء منضدة يعالج كومة من الساعات الجيبية ليعيد اليها نبض الحياة (تك تاك)اذ رغم الحكم الوطني الذي بوأ الشريف  فيصل ملكا على عرش العراق فأن الاسواق العراقية مازالت تكتض بالكثير من جنود الاحتلال انكليز وهنود وكلهم ينثرون (الليرات)) العثمانية و((الروبيات)) الهندية الفضية في تعاملهم مع اصحاب الحرف والمهن اليدوية)من انا؟ ناجي الساعاتي جريدة القادسية 4 ت1 1991

سوق السراي





في الجامعة شعر ناجي جواد بانعطافة في حياته غيرت مجراها وانعطفت بها  من مهنة الساعاتي التي ورثها الى حرفة الادب وتعاطي الثقافة التي سحرته باجوائها وبهرتها بعوالمها وخيالاتها فشعر بالحرية في الكلام والمناقشة بدات في هذه المرحلة  في حياة الساعاتي بوادر تفتحه على عالم القراءة والادب  ومشاوير سوق السراي القريب من عمله.. كانت الفترة الجامعية من حياة الساعاتي هي الانطلاقة في عالمه  الذي استهواه وملك عليه يومياته واستحوذ على قلمه في الرحلات وادبها ومؤلفاتها ،تخرج  من الكلية  وحصل على ليسانس الحقوق 1954  رغم جمعه بين العمل والدراسة في ان واحد كانت والدته واخوه فخري الوحيدين الذين يشجعانه على مواصلة الدراسة.

مستورد الساعات



تحول ناجي جواد الساعاتي  من تصليح الساعات  الى استيرادها.... مطلع اربعينيات القرن السابق،فكان الأول بين التجار المسلمين العراقيين الذي استورد ماركات الساعات السويسرية (اولما سيما)... سبقه في ذلك تجار يهود  ومسيحيين عراقيين،ومنهم التاجر اليهودي سالم عبدوعرف ناجي الساعاتي مستوردا لماركة ساعات (اولماوسيما) المشهورة وكان يستورد منها بالالاف لانها رخيصة الثمن ويستطيع الفقراء وابناء الطبقة الوسطى شرائها.


كان  الساعاتي يبيع ساعاته الى  نقابات العمال والجمعيات الاستهلاكية بطريقة الاقساط الشهرية المريحة، وكان  اخوه فخري يزود الكلية العسكرية و كلية الشرطة بنفس الطريقة و مازال الكثير من الضباط القدامى والموظفين المتقاعدين محتفظين بساعات (اولما) المشتراة من  الساعاتي بينما كان التاجر (حبيب منصور) المسيحي وكيلا لشركة ساعات(رولكس) الغالية والنفيسة و المشهورة  والتي لايستورد منها الا  كميات قليلة ولاتلبي  الا طلبات الزبائن الاثرياء المحدودين في بغداد.  ويذكر ولده سعد بان ممثل شركة (لونجين)السويسرية الشهيرة الح على والده في الستينيات ان يكون ممثلها في العراق لكنه رفض هذا العرض لانها ماركة غالية لاتناسب اغلب الطبقات العراقية من الفقراء ومتوسطي الحال.




افتتح فخري جواد الساعاتي  شقيق جواد الاكبر،اول محل للساعات في شارع الرشيد بداية اربعينيات القرن السابق،في عكد النصارى مقابل المكان الذي  وقعت فيه محاولة اغتيال الزعيم قاسم عام 59،وازيل المحل فيما بعد بدايات ستينيات القرن السابق...تبعه اخيه بعد ذلك ناجي جواد بعد ذلك في افتتاح محل للساعات بداية عام 1942 مشاركة مع ابن عمه، ثم استقل في محله الخاص  في ساحة حافظ القاضي عام 1948، واصبح من اشهر محلات الساعات في بغداد،وكان المحل ملتقى لادباء ومثقفي العراق في ذلك الحين،وانتقل موقع المحل  بعدها الى الباب الشرقي عام 1956 بداية شارع الرشيد قرب سينما الخيام،واستمر فيه لعام 1966 اذ انتقل الى محله الجديد في شارع السعدون في العمارة التي شيدها وحتى الوقت الحاضر تعرف بعمارة ناجي جواد الساعاتي.


الكتاب الاول
خلال دراسته الجامعية للحقوق بدأت اولى محاولات ناجي جواد  الادبية ونشاطاته الثقافية، فكان يراسل الصحف والمجلات المحلية، ونشرت مقالاته الاولى  في جريدة الهاتف لصاحبها جعفر الخليلي،وجريدة البلاد لصاحبها روفائيل بطي وهو من رواد الصحافة الحديثة في العراق، وجريدة ألأيام لصاحبها عبد القادر البراك. وبعد مرحلة نشر المقالات ظهر له اول كتاب عام 1957بعنوان(رسائل من الهند) وهو عبارة عن رسائل ارسلها الى ابنته الكبرى ايام،  يصف فيها احوال الهند وطبيعتها وطباع اهلها. وتاثر في اسلوب الكتاب وصياغته برسائل نهرو الى ابنته انديرا غاندي التي كان يراسلها من السجن، لاقى الكتاب ترحيبا في الاوساط الادبية عند صدوره لكونه  من المحاولات القليلة في ادب الرحلات في الثقافة العراقية،بعد ان  تحسنت احواله  وتغيرت مسيرة حياته  من الفقر الى الغنى وحصل من تجارة الساعات خيرا من الاموال  والعلاقات الطيبة بالزبائن  وتجار الساعات، ولايمانه بان المال وسيلة لا غاية، فمنذ ذلك الحين والساعاتي يوظف امواله في خدمة الثقافة ومؤازرة الادباء الفقراء وتمويل مشاريعهم واعانتهم على شظف الحياة.
اصدر  الساعاتي كتابه الاول عام 1959 ((قصة الوقت))الذي ترجم للغة الانكليزية ونشر في سويسرا وظهر الكتاب بمقدمة مهمة للدكتور العلامة مصطفى جواد.. قبل ان يخوض ناجي جواد الساعاتي  في كتابة ادب الرحلات  في طريق قل سالكيه وانقطع سبيله  في الادب المعاصر بعد ابن بطوطة وابن جبير وابن ماجد ، وقبل ان يصبح ناجي جواد احد نجومه القلائل في سماء الابداع العراقي..كان قد جرب كتابة القصة وظهرت مجموعته الاولى (مع الايام)مطبوعة  عام 1967، جوبهت المجموعة  التي ظهرت بين نجوم الرواية والقصة في ذلك الوقت،بسخط من قبل النقاد وشعر الساعاتي نفسه بعدم الرضا وادرك بانه لايمتلكة الادوات التي تؤهله في مواصلة مشوار القصة فاختار ان يتخصص في  ادب الرحلات التي ابدع فيها  وتميز...من يتابع مؤلفات الساعاتي  سواء في النقد او الادب القصصي  يجد ان للساعتي وجهة نظر من الادب ورسالته في الحياة ومن يتابع قراءة كتبه في الرحلات التي زادت على الستة عشركتابا  عن رحلاته الى دول العالم يجدها تتميز بسلاسلة الاسلوب والتشويق والمتعة في السياحة الجغرافية للاماكن والبلدان التي زارها،  والبراعة في تصوير عادات شعوبها واحوالهم التي كان يشهدها بعين الاديب الحساسة ورؤيته الثاقبة فضلا عن ما كان الساعاتي يجتهد في اضافته من معلومات  بلدانية تتعلق بهذا البلد او ذاك  تغني ذاكرة القارئ وتشبع فضوله وتزيد من توقه لزيارة البلدان والشوق للارتحال اليها.


مكتبة الخلاني ومشاريع خيرية
كثيرا ما كانت مبادرات ناجي جواد الساعاتي الخيرية في خدمة الوطن تتعارض وتتصادم مع رؤية الحكومات الطائفية التي توالت على حكم البلاد...فمثلا عندما تنادى  الساعتي  مع مجموعة من تجار ميسورين الى معاضدة السيد المرحوم محمد الحيدري امام وخطيب جامع الخلاني، بتاسيس مكتبة الخلاني العامة والتي اصبحت خلال فترة و جيزة من انفس المكتبات العراقية، اغلقت  سلطات النظام السابق المكتبة وابقت على قاعة المطالعة فقط،وبقي  للساعتي ركنا خاصا به في مكتبة الخلاني للكتب التي يقوم بشرائها واهدائها الى هذه المكتبة العامرةباصناف مؤلفات المعرفة.وعندما سعى الساعاتي لدعم وتمويل مشروع جامعة الكوفة العلمي لاقى  ايضا الصدود والعراقيل من قبل السلطات التي وادت المشروع في مهده ولاحقت اصحابه وعندما وضع امواله في دعم وتوسيع المدارس الجعفرية والتي كان  عضوا في مجلس ادارتها  من بداية 1962 اممتها سلطة البعثية  الثانية لصالحها بدايات سبعينيات القرن السابق،وعندما فكر باستثمار امواله في اول عمارة ترتفع في شارع السعدون كانت له قرارات  التاميم  لحكومة عبدالسلام عارف بالمرصاد.
تروي السيدة آسيا زوجة السياسي الكردي المعروف توفيق وهبي،وكانت وقتها مديرة سابقة في جمعية الهلال الاحمر الانسانية  عن دور واسهامات ناجي جواد الساعاتي في هذه الجمعية قائلة:كان من اكرم العراقيين واكثرهم تبرعا للهلال الاحمر واي نقص في مشاريع الجمعية كان يغطيه بنفسه


مع مشاهير الادب ونجوم الفن


كان الساعاتي  يتجنب السياسيين في علاقاته، وبالعكس من ذلك كان يوطد علاقته جدا بمشاهير الادباء والفنانين، ليس العراقيين منهم فحسب بل مشاهير الادباء العرب. ارتبط الساعاتي بعلاقة خاصة ومميزة بالشاعر السوري نزار قباني توجت بنجاح مسعاه في تزويجه  من العراقية بلقيس الراوي في بيت الساعاتي على ابي نؤاس و كذلك المفكر اللبناني حسين مروة الذي كان ينزل ضيفا في بيته عند قدومه من اهله في لبنان،و من اقرب اصدقائه  من العراقيين  كان الشاعر الكبير الجواهري والشاعر الوطني محمد صالح بحر العلوم،والعلامة د مصطفى جواد والعلامة محمد بهجت الاثري وطه باقر وصفاء خلوصي وحسين امين ورائد القصة العراقية ذو النون ايوب والكاتب العراقي  التركماني وحيد الدين بهاء الدين والقاص والاديب جعفر الخليلي و الشاعر بدر شاكر السياب وميخائيل نعيمة ولميعة عباس عمارة.وله كتاب اسمه (من ادب الرسائل))هو عبارة عن رسائل متبادلة بينه وبين هؤلاء الادباء وغيرهم.
نهاية المشوار

بعد رحلة عصامية دامت ثمانية وثمانين عاما حقق خلالها الاديب وتاجر الساعات ناجي جواد جزءا من احلامه في السفر والترحال والتاليف وتاسيس المشاريع  التجارية ذات البعد الوطني والانساني وبعد صراع مع المرض  ،وفي غربة موحشة في لندن اغمض ناجي جواد الساعاتي عينيه في فجر يوم الاثنين الموافق 18 ايار 2009  ليلقي ربه راضيا مرضيا وتطوى صفحة متالقة من صفحات الادب العراقي والتجارة الوطنية العراقية الغيورة.. ويدفن في مقابر غريبة بخلاف ما كان يامله ويحلم به ان يدفن تحت ثرى  العراق.

مسابقة الساعاتي لادب الرحلات

من اجل ان لاينقطع ذكره  ولا يتوقف عطائه،ولتأصيل اعماله الخيرية وتخليدها ومشاريعه الثقافية ورحلاته الكثيرة وما اسفر عنها من كتب ومؤلفات اغنت المكتبة العراقية بهذا  الميدان..بادر نجله الدكتور سعد ناجي جواد  استاذ العلوم السياسية بتشكيل لجنة من مجموعة من المثقفين والادباء اسماها لجنة الحفاظ على تراث ناجي جواد الساعاتي وكانت اولى اعمالها تاسيس جائزة باسم جائزة ناجي جواد الساعاتي  لافضل كتاب في ادب الرحلات او تراث بغداد،انطلقت دورتها الاولى في 18 /5/2010  ببغداد وتزامنا مع الذكرى الاولى لرحيله،واصبح ذلك تقليدا ثقافيا سنويا يشرف عليه اتحاد الادباء والكتاب  العراقيين  واللجنة  المذكورة، وخلال السنوات المنصرمة توسعت هذه الجائزة من محيطها العراقي الى المحيط العربي والعالمي حيث حضيت مشاركاتها السنوية بالعشرات من الاعمال لكتاب عرب واجانب في ادب الرحلات.

رحم الله الساعاتي فقد كان بغداديا اصيلا واديبا لامعا من الصف الاول في ادب الرحلات لم ينافسه احد طوال اكثر من نصف قرن كما كان انسانا عراقيا نبيل سعى لتوظيف ما كانت تدر عليه تجارته في الساعات لدعم مشاريع الثقافة وتمويلها ورعاية المثقفين في حياتهم ومطبوعاتهم وانجازاتهم.منزله الانيق في شارع ابي نؤاس شهد حكايا وذكريات عن علاقاته مع ابرز نجوم الاديب والثقافي في العراق والعالم العربي.عشرات من المشاريع الخيرية والشواخص العمرانية ابرزها عمارته في شارع السعدون تنطق بمساره الوطني في التجارة

كان يمكن ان يكون الساعاتي طلعت حرب عراقيا في تاسيس صناعة وطنية للثقافة العراقية تدعم الدولة وتؤازرها....ولكن؟؟؟؟

المصدر: المدى
الكاتب: توفيق التميمي


0 comments:

Blog Tips
Blog Tips
2009@ سوالف عراقية

اشترك معنا في سوالف عراقية